http://sharawy.net/vb/

Visitors since14 Decemder 2011

الأحد، أبريل 11، 2010

أحمد حلمي يكتب: مقالة عسل أبيض

أحمد حلمي يكتب: مقالة عسل أبيض




الثلاثاء, 2010-01-19 19:24


ما أحلي اللقاء وما أصعب الفراق.. كان لقائي به لأول مرة مرحاً ومبهجاً.. لا يقل مرحاً عن ابتسامته المشرقة التي تُظهر بياض أسنانه.. ولا يقل بهجة عن تلك البهجة التي تنبعث من قلبه.. قلبه الذي باتت دقاته تضعف تدريجيا حتي توقف عن كل شيء.. عن الحياة أولا والبهجة ثانيا والطيبة والتسامح والإيمان ثالثاً، ولك أن تتخيل ما كان يملأ قلبه المتوقف هذا حتي تاسعاً وعاشراً.. توقف قلبه غادراً بالحياة ومغادراً منها.. توقف قلبه ملوحاً ومودعاً لكل الأيام التي لن يعيشها.. أيام لو كانت طيبته تنبض فيها بدلا من قلبه.. لبلغ من العمر أرذله.. كان لقائي به في مكتبي مرحاً ومبهجاً.. سأله الساعي: ماذا تشرب؟ فقال: قهوة مظبوطة، وقبل أن ينصرف الساعي لاحقه بـ «لو سمحت»، فتوقف، فقال له: في كباية مش في فنجان.. وحاول تحافظ علي الوش.. وعلي نار هادية وحياتك.. عرفت أنه كييف قهوة، فقلت للساعي: إذن اعملها من البن بتاعي، وقبل أن ينصرف الساعي أوقفته بـ «بقولك إيه»: اعملي أنا كمان قهوة، فقال هو للساعي: «اعملها له من البن بتاعي»، فضحكت، وضحك، وضحك الساعي.. لم تمض دقائق علي انتهائي من شرب قهوتي، ولكن طريقة طلبه القهوة شجعني علي أن أشرب معه فنجاناً آخر.. قهوته كانت مظبوطة.. مثل كلامه وملابسه وشخصيته التي ظهرت من أول لقاء لي به.. وقهوتي أشربها زيادة.. كالترحيب الذي رحبت به.. ليس لأني أعرفه، ولكن لأني شعرت أنني أعرفه.. جلسنا سويًا نتحدث عن الفن والحياة.. حكي لي كيف كان يحب التمثيل من صغره.. كان حُلماً بالنسبة له.. ولكنه كان كابوساً بالنسبة لوالده.. كان رافضا وغير مؤيد لحلم ابنه الذي لم يكن قد ولد بعد.. وكبر الابن وظل الحلم قابعا داخله في انتظار أن يُولد.. ووُلد الحلم أخيراً وهو جالس معي.. ولد حلمه عندما عرف أنه سيقوم بتمثيل دور في الفيلم الجديد.. كان حلمه ضاحكاً مثله.. مبتسماً مثله.. نظرت له فوجدته يبدو كالطفل المحبوس الذي خرج إلي حديقة شاسعة.. لم أر من قبل رجلاً في مثل سنه يبدو كالأطفال هكذا.. لو لم أكن متأكدا أنه يجيد الكلام والمشي لشككت أنني أجلس بصحبة طفل يشرب القهوة.. حكي لي عن حلمه الصغير الذي ولد لتوه.. قال لي إنه «يحب الثمثيل وكان يريد أن يصبح ممثلاً».. وفي الغالب تقترن كلمة «مشهوراً» بـ«ممثل».. ولكنه قال «ممثلاً» فقط.. لم يكن يطمح إلي الشهرة، ولكنه كان يطمح إلي التمثيل فقط.. كان سيمثل دوراً مع الراحل أحمد زكي في أيام الشباب، ولكن والده رفض كما كان رافضاً حلمه.. كان يبحث تارة وينتظر تارة عن فرصة يمكن أن يُولد حلمه علي يديها.. ولكنها كانت لا تأتي.. وإن أتت فإنها لن تنتظر حتي يغير والده رأيه من الرفض للموافقة.. فترحل الفرصة.. زهق الحلم بداخله، ولكنه لم يتركه ويرحل، ولم يمت ولم يتبدل بحلم آخر.. كمُنْ وسكت بداخله حتي ولد بعد أن أصبح صاحبه في الثامنة والخمسين من عمره.. أخذ يقلب فنجانه ثم شرب آخر رشفة فيه.. ووضعه أمامه وقال لي: «أنا مش هامثل».. فاجأني بقوله هذا الذي لو كنت صبرت لحظات لوفرت تلك المفاجأة لشيء آخر ربما لا يستحق المفاجأة بقدر ما تستحقها هذه العباره التي فاجأني بها.. في هذه اللحظات التي لم أصبرها نظرت له وأنا حيران.. وقلت لنفسي: «مش هايمثل» بعد كل هذه الحكايات عن حلمه.. ماذا يقول هذا الرجل، هل أتي إلي هنا ليشرب القهوة فقط ويغادر؟!.. إذن لماذا أخذ السيناريو وأضاع وقته في قراءته؟.. لماذا عشمتنا بأنك ستمثل دور والدي في الفيلم؟.. وزاد العشم عندما وجدته يشبهني كأنه والدي وأنا ابنه.. أو بمعني أدق أنا الذي أشبهه.. «مش هايمثل ليه؟» هل مازال والده علي قيد الحياة ويريد أن يأخذ رأيه؟ أم ربما أخذ رأيه ولم يوافق.. وأتي ليعتذر، ولكنه أصبح الآن كبيرا لدرجة تجعله يفعل ما يريد وفي أي وقت يريده.. أم أنه ينفذ وصية والده في ألا يمثل أبدا حتي بعد مماته.. عندما وجدت نفسي قد غرقت في بحر من الاستفهامات التي من الواضح أنني لن أجد لها طوق نجاة أو منقذاً سوي أن أسأله هو شخصيا ومباشرة، فسألته: يعني إيه مش هتمثل؟ قالي: «يعني إن شاء الله هاكون طبيعي جدا في دور الأب.. أصل أنا أب وولادي في مثل عمرك.. وهذا سيجعلني طبيعيا في الدور.. لذلك فأنا أشعر بأنني لن أمثل».. قلت لنفسي: حمدًا لله علي أن تفكيري وأسئلتي واستفهاماتي لم تكن مسموعة، وإلا كان قد اعتذر عن الدور والفيلم بسبب تسرعي وغبائي، فتحت جملته تلك التي فاجأتني بابا جديدا للحديث عن أولاده.. هؤلاء الذين كان وجودهم في حياته سببا أساسيا في أنه لن يمثل.. أو بمعني أوضح حتي لا يقع أحد فيما وقعت فيه.. إنه سيكون طبيعيا في دور الأب.. وقد كان.. كان أبا حقيقيا.. في التمثيل وخارجه.. أحببت هذا الرجل أقل بكثير مما أحبني.. واحترمته أكثر بكثير من حبه لي.. انتهي الفيلم الذي كان سببا في ولادة حلمه.. كان دائم النصح لي كالأصدقاء المقربين.. كان صديقي الكبير.. وكان دائما ما يستشيرني فيما يعرض عليه من أدوار.. فشعرت بأنني أبوه الصغير.. أبوه الذي لم يرفض حلمه.. قال لي يومًا: «نادني باسمي ولا تسبقه بألقاب»، فقلت له: «لو كان ذلك سيزيد من صداقتنا فليس لدي أي مانع، وإن كنت تريد ذلك حتي لا تبدو كبيرا في السن، فليس لدي مانع أيضا»، ولكنه قال لي: «لا هذه ولا تلك.. فأنا أريد أن أناديك باسمك دون ألقاب، ولكني لا أستطيع فعلها طالما أنت تناديني بالأستاذ»، فقلت له: «من هذه اللحظة أنت ليس بأستاذ، ولا أنا كذلك»، ولكنني سألته عن السبب والمغزي وراء طلبه هذا، فقال لي: «هذا سيساعدني أكثر علي أن أبدو طبيعا في تجسيد دور أبيك.. فأنا لا أنادي ابني بـ«يا أستاذ» أبدا مهما حصل..»، فقلت له.. «هل تشتم ابنك أحيانا؟» فقال لي: «طبعا.. أشتمه جداً وهزاراً»، فقلت له: «إذن لو شعرت بأنني ابنك فعلا، ونحن نمثل أمام الكاميرا، فلتقل لي ما تقوله لابنك جداً كان أو هزارًا».. وبدأنا التصوير وأنهيناه، وجسد دور الأب بإتقان.. ولم ينادني إلا بـ«يا أستاذ».. ولم يسمح لي أن أناديه إلا باسمه.. محمود الفيشاوي.. الأستاذ محمود الفيشاوي.. صديقي الكبير.. هذا الأسمر الطويل النحيل المرح الضاحك الراحل.. رحل قبل أن يكبر حلمه.. قابلته أول مرة بشوشا مرحاً يحب الناس والحياة.. وقابلته آخر مرة، فرأيته أكثر مرحاً وحباً للحياة.. ولا أعرف لماذا قال لي: «لا تجعل شيئا يضايقك.. إن الحياة لا تستاهل» أعطاني «برطمان» من العسل الأبيض ورحل.. وكان هذا آخر يوم رأيته فيه وسمعت صوته.. وفي اليوم التالي فتحت تليفوني، فوصلتني رسالة منه.. كان قد أرسلها قبل اليوم الذي رأيته فيه بيوم واحد.. قرأت الرسالة فوجدتها كالآتي.. «عزيزي أستاذ أحمد.. أنا جايلك بكره التصوير، وجايبلك معايا برطمان عسل أبيض، لأن أكيد البرطمان اللي عندك زمانه خلص». يحزنني كثيرا أنني أتحدث عنه بلفظ كان، ولكنها مشيئة خالقه.. وهذه هي الحياة.. وهكذا يكونون بعض من يملأونها.. أشخاص يحذرونك من غدرها فتغدر بهم.. يطلبون منك أن تُقبل عليها وتبتعد هي عنهم.. هذا الإنسان لم أكتب عنه لأنه ممثل مشهور أو نجم لامع.. فهو لم يكن كاتبا مرموقا.. لم يكن سياسيا أو عالما مثابرا، لكنه كان إنسانا.. إنسان مشهور بابتسامته.. لامع بحبه للآخرين.. مرموق بطيبته.. مثابر في صبره علي حلم.. ظل سنينا طويلة ينتظر ولادته.. وعندما ولد تركه ورحل، فمات الحلم معه، وهو مازال رضيعا.. محمود الفيشاوي.. الله يرحمه.. الفاتحة عليه وعلي حلمه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق